دروس التاريخ .. لماذا يسكن الأمريكيون بيوتًا خشبية هشة رغم كل هذا التقدم الحضاري؟

في فجر الثامن عشر من أبريل عام 1906، بينما سكان مدينة سان فرانسيسكو يغطّون في نوم عميق، ويستعدون ليوم تقليدي، لم يكن المصير الذي ينتظرهم عاديًا على الإطلاق، حيث استيقظوا في فزع وصدمة من هول صوت "10 آلاف أسد يزأرون في آن واحد".

كان هذا في الحقيقة صوت زلزال بقوة 7.9 درجة وقع في تمام الساعة 05:12 صباحًا بالتوقيت المحلي، وضرب سواحل شمال ولاية كاليفورنيا، متسببًا في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخ الولايات المتحدة، وتزامن الصوت مع انهيار المباني وتشقق الأرض وتساقط الأعمدة والأشجار.

سان فرانسيسكو التي تشتهر الآن بمعالمها الجذابة وتعرف باسم "مدينة الخليج" تحولت إلى "جحيم" في غمضة عين، حيث انهار على الفور مبنى البلدية، وتحطم السقف الزجاجي لفندق بالاس الشهير، وانفجرت أنابيب المياه والغاز، ورغم أن المدينة شهدت زلازل على مدار العقود السابقة، لكن كان هذا مختلفًا تمامًا.

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

الهدير العالي المفزع الذي شبهه السكان بزئير الأسود، لم يستمر سوى دقيقة واحدة، ومع ذلك، لم تكن قوة الزلزال المدمرة، أو الخسائر المباشرة له، هي الفاجعة الوحيدة التي حلت بسكان سان فرانسيسكو.

عقب هدوء الموجات الاهتزازية مباشرة، اندلعت حرائق في جميع أنحاء المدينة، واستمرت دون سيطرة لثلاثة أيام متتالية، ليتحول بعدها أكثر من 500 تجمع سكني -تغطي مساحة 10 كيلومترات مربعة- إلى رماد، ولولا الأمطار لما انطفأت النيران في ذلك الوقت.

خلال هذه المأساة، دمر الحريق 80% من المدينة، والتهمت النيران نحو 28 ألف مبنى، وبلغت قيمة الخسائر العقارية فقط 350 مليون دولار (نحو 12 مليار دولار بقيمة اليوم)، وقتل نحو 3 آلاف شخص وأصبح 250 ألفًا بلا مأوى.

بعد 120 عامًا.. الكارثة مستمرة

- في السابع من يناير الجاري، اندلعت سلسلة من حرائق الغابات في كاليفورنيا (أيضًا)، تركزت في مدينة لوس أنجلوس، والتي تأججت وواجهت وحدات الطوارئ صعوبة في السيطرة عليها، بسبب الرياح العاتية وانخفاض الرطوبة وظروف الجفاف.

- بحلول الأسبوع الثالث من الأزمة، تسببت الحرائق في إلحاق الضرر أو تدمير 16 ألف مبنى، ومقتل 28 شخصًا على الأقل، وتدمير نحو 55 ألف فدان (222 كيلومتر مربع) وإصدار أوامر إخلاء لمئات الآلاف من السكان، وفرض حظر التجول ببعض الأحياء، وانقطاع الخدمات في بعض المناطق.

- بحلول اليوم الثلاثاء، أصبحت جميع بؤر الاحتراق تخضع لسيطرة لرجال الطوارئ الذين تمكنوا من إخماد الجزء الأكبر منها، لكن وفقًا لتقرير من "AccuWeather"، فإن إجمالي الأضرار المتوقعة عن هذه الكارثة يتراوح بين 250 مليار و275 مليار دولار.

- كانت هذه الحرائق عنيدة للغاية، تندلع في مناطق متفرقة وتنتشر بسرعة كبيرة عبر الأحياء مخلفة دمارًا شديدًا، وكانت مقاومتها صعبة للغاية في ظل جفاف المناخ وشح الأمطار، لكن كيف يمكن للنيران التي تبدأ في الغابات أن تنطلق إلى الأحياء السكنية التي تضج بالحياة ويقل فيها وجود الأشجار الكثيفة؟

- للسبب نفسه الذي غذى حريق عام 1906، وهو اعتماد السكان على الخشب في بناء منازلهم، فبحسب بيانات الحكومة الأمريكية، كان من بين المباني الـ 28 ألف المحترقة آنذاك، نحو 25 ألف مبنى خشبي.

- بالعودة إلى الحاضر، كان من المذهل في خضم هذه الحرائق المستعرة على مدار أيام، أن بعض المنازل ظلت قائمة لم يضرها شيء بينما تدمرت الأحياء التي تقع فيها بشكل كامل تقريبًا، ويرجع ذلك لحقيقة أن هذه المنازل لم تُبْنَ من الخشب (أو على الأقل ليس من الخشب التقليدي) واعتمدت على مواد معالجة ضد الحريق.

- المشاهد الواردة من لوس أنجلوس كانت صادمة للغاية، تظهر أحياءً مدمرة عن بكرة أبيها، كما لو أن قنبلة نووية انفجرت فدمرت المباني واستثنت الطرقات وبعض الأجسام الصلبة.

- لكن لماذا يُصر الأمريكيون على استخدام الخشب كمورد أساسي في بناء منازلهم بعد كل هذا التقدم والازدهار؟ لماذا لم يتعلموا الدرس من كارثة كاليفورنيا وغيرها من الكوارث الطبيعية؟

عشق لا ينتهي للخشب

- عندما بدأت سان فرانسيسكو جهود التعافي بعد حريق عام 1906، اعتمدت على أنماط البناء المقاومة للزلازل والحرائق، وطالب الناس بقواعد بناء أكثر صرامة تحظر الهياكل الخشبية، لكن الرغبة في إنجاز عملية الإعمار سريعًا والخوف من هروب الاستثمار، أجبر السلطات على السماح باستخدام الخشب.

- تمكنت المدينة من إعادة بناء 20 ألف مبنى بحلول عام 1909، لكنها في سبيل الإعمار خففت اشتراطات السلامة بشكل كبير للغاية في السنوات التالية للكارثة، قبل أن تعتمد قيودًا صارمة في خمسينيات القرن الماضي، والآن تعرف بأن قوانينها للبناء من بين الأكثر صرامة في البلاد.

- مع ذلك، لا تزال تعتمد عمليات تشييد المنازل في أمريكا على الخشب بشكل كامل تقريبًا، ووفقًا لبيانات الرابطة الوطنية لشركات البناء، شكلت البيوت الخشبية نحو 93% من البيوت الجديدة عام 2023، في حين اعتمدت قرابة 7% منها على الخرسانة، ونسبة ضئيلة للغاية كانت ذات هياكل فولاذية.

- هذا الاعتماد المطلق، يجعل المنازل في أمريكا شديدة الهشاشة في مواجهة الكوارث الطبيعية، فعلى سبيل المثال، تسبب إعصار "هارفي" في دمار أو أضرار لأكثر من 200 ألف منزل عام 2017، وخلف خسائر مادية قدرها 125 مليار دولار، ما يجعله ثاني أسوأ إعصار من حيث التكلفة في التاريخ، بحسب ورقة بحثية لجامعة "لامار".

- وفقًا لشركة تحليلات السوق العقاري "كور لوجيك"، فإن 32.7 مليون منزل بقيمة إجمالية 10.8 تريليون دولار، عرضة للضرر بسبب الرياح العاتية في الولايات المتحدة، و7.7 مليون منزل بقيمة 2.3 تريليون دولار عرضة لخطر الفيضانات الناجمة عن العواصف.

- علاوة على ذلك، قالت دائرة الغابات في تقرير لها العام الماضي، إن أكثر من 115 مليون شخص و48 مليون مبنى يقعون في مقاطعات تواجه خطرًا كبيرًا لاندلاع حرائق الغابات، وهو تهديد متزايد في السنوات الأخيرة سواء بسبب حالات الطقس أو الأخطاء البشرية.

السر وراء هذا العشق

- الكوارث الطبيعية وهشاشة البيوت في أمريكا، قد لا تعني بالضرورة أن الولايات المتحدة تواجه مصير روما، عندما أدى انفجار بركاني في القرن الأول قبل الميلاد إلى انهيار الجمهورية وقيام الإمبراطورية بعد سلسلة من الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية، بجانب الظروف السياسية المتوترة بالفعل.

- قد يتساءل البعض لماذا لا يتحول الأمريكيون إلى أنماط أكثر أمانًا مثلما فعلت اليابان (تواجه 1500 زلزال سنويًا) عندما تحولت إلى أنماط مقاومة للهزات الأرضية، حيث تشير وكالة العقارات اليابانية "إي هاوسينج" إلى أن 87% من المباني الجديدة في البلاد قادرة على تحمل الزلازل الكبرى.

- في الحقيقة هذا يحدث لكن بوتيرة بطيئة وجهود فردية للغاية، والحقيقة أن حب الأمريكيين للخشب متأصل في تاريخهم، ومهما شكلت الحرائق والأعاصير المتكررة خطرًا على حياة السكان، لا يبدو أنهم سيتخلون عن هذا النمط أبدًا.

- الأمريكيون الحاليون هم في الأساس أحفاد مستعمرين جاؤوا من أوروبا، التي كان (ولا يزال) نمط البناء الرئيسي فيها يعتمد على الطوب، لكن أراد هؤلاء المستعمرون استيطان العالم الجديد سريعًا، ولما كانت الغابات تغطي مساحات شاسعة من الأراضي، أصبح الخشب المورد الأكثر وفرة فاستخدموه لبناء منازلهم وحتى تدشين التحصينات.

- بدأ استخدام الطوب في البناء أوائل القرن السابع عشر، ولكن اقتصر ذلك على المباني المهمة والعامة وبيوت الأثرياء، وفي ذلك الوقت، كانت صناعة البيوت الخشبية تتطور وتصبح أكثر متانة مع تدشين مصانع الأخشاب لتحويل جذوع الشجر إلى ألواح.

- مع التوسع غربًا، وتطوير مشاريع السكك الحديدية، ظل الخشب المورد المفضل للبناء، علاوة على عدم العثور على أي موارد طبيعية أخرى للبناء في السهول الكبرى، بخلاف الطين، وبمرور الوقت، جعلت التطورات التقنية صناعة الخشب أكثر فعالية.

- في الوقت الراهن، لا تزال الوفرة والسعر الرخيص وسهولة البناء من المميزات الرئيسية التي تجذب الأمريكيين للتمسك بهذا النمط في البناء، وخلصت بعض الدراسات إلى أن سكان الولايات المتحدة ينتقلون في المتوسط إلى منزل جديد 5 مرات على مدار حياتهم، لذلك يفضلون البيوت الخشبية سريعة البناء ومنخفضة التكلفة.

- هناك سبب آخر مهم جدًا لبناء المنازل الخشبية وهو أن الضرائب على المنازل المبنية بهذه المادة أقل من تلك التي يدفعها أصحاب المنازل المبنية بالأسمنت والطوب، فبناء المنازل بالطوب أو الخرسانة يجعلها أكثر قيمة، ما يزيد الضرائب.

ماضي أمريكا يحدد مستقبلها

- بعد قرون من قدوم المستعمر الأوروبي، أصبح البناء بالخشب جزءًا من ثقافة البلاد، وتجسيدًا لـ "الحلم الأمريكي" حيث يرمز إلى المنازل المريحة والحياة الأسرية النمطية، وهذا ما يرجعه علماء الاجتماع إلى مفهوم "حلقة التغذية الراجعة لاعتماد المسار" وقد تعرف أيضًا بـ "حلقة التغذية الراجعة للاعتماد على التاريخ" وبالإنجليزية "The Path Dependence Feedback Loop".

- يشير مفهوم "اعتماد المسار" أو "Path Dependence" إلى اعتماد الأشخاص في تحديد خياراتهم مستقبلًا على قرارات وأحداث سابقة، أما الشق الثاني الخاص بـ "حلقة التغذية الراجعة" فيشير إلى عملية تتكرر فيها نفس التأثيرات وعمليات صنع القرار.

- على سبيل المثال، شركة بدأت في استخدام نظام تشغيل معين، وبمرور الوقت، أصبح الموظفون مُعتادين على هذا النظام، وتستثمر الشركة في تدريبهم عليه واقتناء برمجيات متوافقة معه، هذا يمثل "اعتمادًا للمسار".

- لكن لو ظهر نظام تشغيل آخر أفضل، ورفضت الشركة التحول إليه بسبب استثماراتها السابقة، فهذا يمثل "حلقة تغذية راجعة" والتي ستضطر الشركة خلالها إلى ضخ المزيد من الاستثمارات في النظام القديم.

- باختصار، تبدأ هذه الحلقة عندما يصبح الاختيار، الذي يتخذ غالبًا لأسباب عملية، هو الخيار الأسلم، ورغم أن هذا الخيار قد لا يخدم الغرض منه بمرور الوقت، أحيانًا، فإن النظام المحيط به يتكيف لدعمه.

- مع تطور الخبرات، وتخصص الصناعات في أعمال بعينها، ونمو الاقتصادات، تجعل مثل هذه الحلقات من الصعب والمكلف للغاية تغيير المسارات التي اعتمدها الأفراد والشركات، حتى لو لم يعد الخيار الأصلي يخدم غرضه.

- ينظر إلى سان فرانسيسكو باعتبارها مثالًا للتمرد وكسر هذه الحلقة بعد كارثة عام 1906، حيث استعانت بشكل أكبر بمواد البناء المقاومة للحريق، وكان ذلك مدفوعًا بشكل أكبر بمحاولة التكيف مع العالم المتغير من حولها وليس فقط للسلامة.

- إن كسر الحلقة على مستوى الولايات المتحدة، لن يكون سهلًا على الإطلاق، حيث يتطلب تغيير المعتقدات الثقافية المقيدة، وضخ الكثير من الاستثمارات، ورغم أن فوائده أكبر بكثير على المدى الطويل، يؤكد التاريخ الطويل من الكوارث التي أثبتت "هشاشة البيت الأمريكي" أنه مبتغى شبه مستحيل ومرفوض تقريبًا في المجتمع.

- لذلك، ومن مفارقات القدر، فإن أمريكا صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، والتي تفوقت على الدول العظمى ودحرت بعضها، وتقارع الآن القوى النووية الكبرى، تظل هشة للغاية في مواجهة أضعف أسلحة البشر "عود ثقاب"، ونقطة ضعفها "يوم عاصف لا تأمن ريحه".

المصادر: أرقام- بريتانيكا- الأرشيف الوطني الأمريكي- مكتب إحصاءات العمل الأمريكي- لوس أنجلوس تايمز- هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية- يو إس توداي- إدارة الغابات والحماية من الحرائق في كاليفورنيا- إن بي آر- الرابطة الأمريكية لشركات البناء- مجلة العلوم الأمريكية- سان فرانسيسكو جيت- نيويورك تايمز- إي هاوسينج- هوديبي- آس- مدونة إنترنت فايبس- جيميناي- شات جي بي تي